الجمعة، 18 يوليو 2025
دبي، الإمارات العربية المتحدة:
إن دونالد ترامب لا يمل من التلويح بسلاح الرسوم الجمركية، لكن هل سيتراجع مرة أخرى؟ من يدري، لكن احتمالات نجاحه أو حتى قدرته على إبرام صفقات تهدئ نزعاته التجارية المتهورة تبدو منخفضة إلى معدومة، ولأن الشخصية غير المنطقية يصعب التنبؤ بتحركاتها فربما يعني ما قاله هذه المرة، وإذا كان الأمر كذلك فإن متوسط التعريفات المطبقة في أمريكا البالغ 8.8%، والذي كان مرتفعاً في مايو سيرتفع إلى حد كبير، وسندخل عالماً جديداً.
ولنلقِ نظرة على بعض ما يتم اقتراحه حالياً: رسوم جمركية بنسبة 50% على الواردات من البرازيل، و40% على لاوس وميانمار، و36% على تايلاند، و35% على بنغلاديش، و32% على إندونيسيا، و30% على جنوب أفريقيا وسريلانكا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن 25% على اليابان وكوريا الجنوبية. وتظل هذه النسب المقترحة قريبة جداً من التي جاءت في الصيغة الاستثنائية، التي طرحت في 2 أبريل 2025، بناء على نسبة العجز الأمريكي مع كل دولة.
ولا بد من التأكيد مراراً وتكراراً أن هذه مقاربة اقتصادية عبثية لا تستند إلى منطق، فلا يوجد أي سبب يدعو للاعتقاد بأن التجارة الثنائية يجب أن تكون متوازنة، كما أن غياب هذا التوازن لا يعني إطلاقاً أن الدولة صاحبة الفائض «تغش»، كذلك فإن الميزان التجاري الإجمالي في السلع، أو في السلع والخدمات، ليس مجرد جمع للموازين التجارية بين كل دولتين على حدة، بل هو نتيجة لتفاعل عوامل متعددة، منها صافي دخول رؤوس الأموال، وتدفقات رأس المال، وقبل كل شيء، الدخول والإنفاق الإجمالي.
وأقل شيء يمكن قوله إنه من الجنون الاعتقاد أن الولايات المتحدة يمكنها أن تواصل تسجيل عجز مالي ضخم دون أن يقترن به عجز كبير في الميزان التجاري والحساب الجاري، على الأقل ما دام بقية العالم مستعداً لتمويله، لكن ماذا لو توقف العالم عن ذلك؟ ستكون النتيجة فوضى مالية.
في هذه الأثناء ستتسبب الفسيفساء غير العقلانية من الرسوم الجمركية المقترحة حالياً في تخصيص خطأ وكبير للموارد. وإحدى النقاط التي لا يستطيع نظام ترامب فهمها هي أن الرسوم الجمركية على بعض السلع هي ضريبة على إنتاج سلع أخرى، فالرسوم المرتفعة على مدخلات الإنتاج، مثل الصلب أو الألمنيوم، هي ضريبة على منتجي السلع، التي تستخدم فيها هذه المواد.
وإذا كان هؤلاء المنتجون ينتجون بدائل للواردات فقد تعوض الرسوم الجمركية تلك التكاليف جزئياً، أما إذا كانوا ينتجون سلعاً موجهة للتصدير، فهذا التعويض غير ممكن، وبهذا فإن رسوم ترامب ستسهم في دعم أضعف قطاعات الاقتصاد من حيث القدرة التنافسية العالمية، على حساب أكثرها تنافسية، فهل في ذلك أي منطق؟ الجواب، بطبيعة الحال، لا.
الأسوأ من ذلك أن التركيز برمته على سلع الماضي أمر عبثي، فالمعيار الحقيقي هو القدرة التنافسية في المستقبل، وبذلك فإن هذه المقاربة الاقتصادية تشبه محاولات إحياء الديناصورات، وكما يشير ديفيد أوتور من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، وجوردون هانسون من جامعة هارفارد، فإن التحدي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم هو صعود الصين قوة عظمى في مجالي التكنولوجيا والعلوم.
وإذا أرادت أمريكا الرد على ذلك التحدي فيجب عليها التعاون مع حلفائها، وتكريس موارد أضخم بكثير للبحث العلمي، واستقطاب المهاجرين الموهوبين، أي أن تفعل تماماً عكس ما يقوم به ترامب حالياً، فهل هذا هو شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً»؟ والأسواق تتجاهل هذه المخاطر بعيدة المدى بالنسبة بالولايات المتحدة، وقد تكون مصيبة في ذلك، لكنها قد تكون مخطئة أيضاً.
إن هذه الرسوم الجمركية ليست مجرد حماقة، بل هي شر مستطير أيضاً. دعوني أستشهد بمثالين فقط: أولهما الرسوم الجمركية المقترحة بنسبة 50% على البرازيل، فكما أوضح ترامب نفسه في رسالة بعث بها إلى الرئيس لويز إيناسيولولا دا سيلفا، تأتي هذه الرسوم رداً على محاكمة جايير بولسونارو أو ما يطلق عليه «نسخة ترامب المصغرة»،، بتهمة محاولة قلب نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
هل يبدو هذا مألوفاً؟ يشير بول كروجمان إلى أن هذا يمثل جزءاً من «برنامج حماية الدكتاتور» الذي يتبناه ترامب، وبغض النظر عن كل الاعتبارات الأخرى، لا يملك ترامب أي سلطة قانونية لاستخدام الرسوم الجمركية في هذا الغرض، ثم هناك الرسوم الجمركية «الوحشية» المفروضة على لاوس، فوفقاً لصندوق النقد الدولي تعد لاوس من الدول شديدة الفقر، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي فيها 11% من المستويات الأمريكية.
كما أن فائضها التجاري مع الولايات المتحدة لم يتجاوز 0.8 مليار دولار في عام 2024! إذن، مجرد تفكير قوة عظمى في فرض رسوم جمركية عقابية على دولة بهذا الوضع يتجاوز حدود الحماقة، ليصل إلى مستوى مروع، وما يجعلها خبيثة بشكل لا يمكن إصلاحه، وفقاً لشبكة «سي إن إن»، هو أنه «بين عامي 1964 و1973 ألقت الولايات المتحدة أكثر من مليوني طن من القنابل على لاوس، أي أنه سقطت على لاوس خلال حرب فيتنام قنابل تفوق ما ألقي على ألمانيا واليابان مجتمعتين خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا ما جعل لاوس، على أساس نصيب الفرد، البلد الأكثر تعرضاً للقصف في التاريخ». أليس هناك أي شعور بالخجل؟
إن البيت الأبيض يتفاخر بأن هذه الإدارة يقودها «أفضل مفاوض تجاري في التاريخ»، والذي «ركزت استراتيجيته على معالجة الاختلالات المنهجية في معدلات رسومنا الجمركية، التي أمالت الكفة لصالح شركائنا التجاريين على مدار عقود»، لكن الحقيقة أنه لم تكن هناك أدنى فرصة للتوصل إلى اتفاقيات مع قرابة 200 دولة، أو حتى مع 100 دولة، خلال أشهر معدودة.
علاوة على ذلك فإن العديد من المطالب الأمريكية كمطالبة الاتحاد الأوروبي بالتخلي عن ضريبة القيمة المضافة مثلاً تبدو سخيفة، فضريبة القيمة المضافة ليست تشويهاً للتجارة: إنها تطبق على جميع السلع والخدمات المباعة في أسواق الاتحاد الأوروبي، وهذا ما ينبغي أن يكون انسجاماً مع مبدأ الوجهة، والأهم من كل ذلك أن هذه الرسوم الجمركية لن تقضي على العجز التجاري الأمريكي على أية حال.
فما العمل إزاء هذا الجنون؟ أولاً، علينا أن نأمل بأن يتراجع ترامب مراراً وتكراراً، رغم أن حالة عدم اليقين المترتبة على ذلك ستظل باهظة التكلفة. ثانياً، يجب أن يكون هناك رد فعل انتقامي منسق، ضد الولايات المتحدة. ثالثاً، ينبغي على جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية أن يعلنوا أن أي امتيازات تجارية تمنح للولايات المتحدة سيتم توسيعها لتشمل الأعضاء الآخرين، وفقاً لمبدأ «الدولة الأولى بالرعاية». وأخيراً، يجب على الأعضاء الآخرين الالتزام باتفاقياتهم المتبادلة، فالولايات المتحدة خرجت عن القانون، ولا ضرورة لأن يحذو بقية العالم حذوها.