الجمعة 11 يوليو 2025 - 03:24:33 م

بين الصمود والاندثار.. الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف الوظائف

بين الصمود والاندثار.. الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف الوظائف

دبي، الإمارات العربية المتحدة:

هل توجد وظيفة آمنة مع ازدياد قدرات الذكاء الاصطناعي؟ قال مارتن وولف، كبير المعلقين الاقتصاديين في صحيفة فايننشال تايمز «لقد أقنعت نفسي نوعاً ما بأن الوظيفة الأكثر أماناً في العالم ربما تكون البستاني».

 

بدا ذلك صحيحاً، فهناك بعض الأشياء لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر القيام بها.

 

لكن صباح اليوم التالي، نشرت فايننشال تايمز تقريراً بعنوان «حدائق زرعها الذكاء الاصطناعي»، استعرضت فيه أنظمة الري بالتنقيط المؤتمتة بذكاء، وكاشفات الآفات، والفزاعات العاملة بالليزر، وروبوتات إزالة الأعشاب الضارة التي تعمل بالطاقة الشمسية، يا للمفاجأة.

 

وليس من الواضح تماماً إلى أي مدى ستهدد الفزاعات الليزرية وروبوتات إزالة الأعشاب الضارة وظائف البستانيين البشر، إلا أن الاحتمال يذكرنا بوجود فرق بين الوظيفة والمهمة، فمعظم الوظائف من مجموعة مهام متصلة.

 

فالبستاني يحتاج إلى القيام بكل شيء، بدءاً من جز العشب وإزالة الأعشاب الضارة، مروراً بتشخيص إصابات الآفات وتصميم المساحات الخارجية، أو الأصعب من ذلك كله، التواصل مع عميل صعب المراس.

 

وبينما يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي المختلفة المساعدة في غالبية هذه المهام، فإن النتيجة المتوقعة ليست اختفاء مهنة البستنة، بل تغيير شكلها.

 

والسؤال هو: كيف سيغير كل تطبيق للذكاء الاصطناعي شكل ما نقوم به؟ وهل سنحب الوظائف المعاد صياغتها، والمتاحة لنا، بعد هذا التحول العميق؟

 

قد تكون تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي مستحدثة، لكن هذه التساؤلات قديمة قدم احتجاجات اللوديين مطلع القرن التاسع عشر ـ حركة احتجاجية عمالية في بريطانيا، حيث قام العمال بتخريب الآلات التي حلت محلهم في المصانع خلال الثورة الصناعية ـ حين شاهد عمال النسيج المهرة الآلات تؤدي الأجزاء الأكثر تعقيداً من أعمالهم، ما أتاح استبدالهم بعمال منخفضي الأجور وأقل خبرة بكثير.

 

إجابات تلك الأسئلة القديمة تعتمد على التكنولوجيا والوظيفة.

 

ويمكن استخلاص درس مهم من سابقتين متناقضتين: جداول البيانات الرقمية، وسماعات التوجيه في المستودعات مثل وحدة «جينيفر».

برامج جداول البيانات الرقمية التي طرحت في الأسواق عام 1979، أدت على الفور المهام التي كان يقوم بها كتبة الحسابات بشكل فوري ودقيق، غير أن مهنة المحاسبة تطورت ببساطة نحو مشكلات أكثر استراتيجية وإبداعاً، كنمذجة السيناريوهات والمخاطر المختلفة، ومن منا لا يرغب في محاسب مبدع؟

 

وحدة «جينيفر» عبارة عن سماعة توجه العاملين في المستودعات خلال تنقلهم بين الرفوف لالتقاط البضائع، تهمس في آذانهم وتتابع كل حركة وتحدد لهم خطوتهم التالية.

 

إنها تزيل آخر ما تبقى من «العبء الذهني» في وظيفة تتطلب جهداً بدنياً، وكانت بالفعل مملة.

لقد كانت تناقضاً صارخاً مع جداول البيانات الرقمية الذي أزال الجزء الأكثر مللاً من وظيفة متنوعة وذات مهارات عالية.

الدرس المستفاد هنا: أن الذكاء الاصطناعي قد يجعل الوظيفة المملة أكثر مللاً، والمهنة المثيرة أكثر إثارة.

 

وهناك بيانات جديدة ومنظور حديث لهذه الأسئلة قدمه باحثان من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ديفيد أوتور ونيل طومسون. استهل أوتور وطومسون ورقتهما البحثية الجديدة بعنوان «الخبرة» بطرح سؤال: هل نتوقع أن يتأثر كتبة المحاسبة وكتبة المخزون بالأتمتة بالشكل نفسه؟

 

وهناك مقاربات عدة وراسخة لتحليل هذا السؤال، وتشير جميعها إلى أن الإجابة هي «نعم».

 

فقديماً، كان كلا النوعين من الكتبة يقضون وقتاً طويلاً في تنفيذ مهام فكرية روتينية مثل اكتشاف التناقضات، وإعداد قوائم المخزونات أو جداول البيانات، وإجراء عمليات حسابية بسيطة على نطاق واسع.

وكل هذه المهام كانت من النوع الذي يمكن للحواسيب تنفيذها. وما إن أصبحت أسعار الحواسيب رخيصة بما يكفي، حتى تولت هذه المهام.

ولأن المهام نفسها واجهت النوع نفسه من الأتمتة، فيبدو من المنطقي أن تتغير كلتا الوظيفتين بطرق متشابهة.

 

إلا أن الواقع كان مغايراً تماماً، فحسب أوتور وتومبسون، شهدت أجور كتبة المحاسبة ارتفاعاً ملحوظاً، بينما تراجعت أجور كتبة المخزون.

 

ويرجع ذلك إلى أن غالبية الوظائف ليست مجموعة عشوائية لمهام منفصلة، بل حزم مترابطة من المهام التي يؤديها الشخص نفسه بكفاءة لأسباب واضحة ومنطقية. وعند استبعاد بعض المهام من الحزمة، ستتغير الوظيفة بأكملها.

 

وفقد كتبة المخزونات ذلك الجزء من وظيفتهم الذي يتطلب معظم التعليم والتدريب (العمليات الحسابية) الذي حصلوا عليه، وأصبحوا أقرب إلى عمال ترتيب الأرفف.

 

بالمثل، فقد كتبة المحاسبة أيضاً مهام الحساب، لكن ما تبقى من عملهم تطلب مهارات الحكمة والتحليل وحل المشكلات المعقدة.

 

ورغم أتمتة النمط ذاته من المهام، فقد جاءت النتيجة متباينة تماماً، حيث انحدرت وظيفة كاتب المخزون إلى عمل يتطلب تأهيلاً وكفاءة أقل، في حين أصبح كتبة المحاسبة مطالبين بمستويات خبرة تفوق ما كان مطلوباً منهم في السابق.

 

والهاجس الطبيعي لكل من يأمل في الحصول على وظيفة خلال السنوات الخمس المقبلة هو التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي على تلك الوظيفة.

 

ومع عدم وضوح الرؤية، يقدم إطار أوتور وتومبسون سؤالاً محورياً: هل سيستحوذ الذكاء الاصطناعي على الجزء الأكثر مهارة في وظيفتك أم الجزء الأقل مهارة الذي لم تستطع التخلص منها حتى الآن؟ قد تساعد الإجابة عن هذا السؤال في استشراف ما إذا كانت وظيفتك ستتحول نحو مزيد من المتعة الإبداعية أم نحو مزيد من الإرهاق، وما إذا كان راتبك سيشهد ارتفاعاً أم انخفاضاً مع تراجع قيمة خبرتك، تماماً كما حدث مع خبرة اللوديين المهنية.

 

على سبيل المثال، نظم الذكاء الاصطناعي التوليدي، تشكل أدوات متميزة للعصف الذهني، حيث تنسج روابط غير تقليدية وتطرح الكثير من الأفكار المتنوعة.

 

فحين أدير لعبة تقمص الأدوار، فهذا أمر رائع، إذ تختصر مرحلة الإعداد وتتيح لي الانتقال فوراً إلى الجزء الممتع المتمثل في الالتفاف حول الطاولة مع الأصدقاء متقمصين أدوار السحرة.

 

غير أن الأمر يختلف جذرياً بالنسبة لشخص تمنحه وظيفته لحظات متفرقة من الإبداع الذهني وسط بحر من الأعباء الإدارية الرتيبة، حينها قد يشكل ظهور آلات العصف الذهني الصناعية انتقاصاً من قيمته المهنية بدلاً من تعزيزها.

 

ولنعد إلى حالة البستاني مجدداً. ربما يكمن أكثر جوانب عمله إرهاقاً هو محاولة صياغة رسائل إلكترونية للعملاء المكتبيين الذين يبدون أكثر تمكناً من هذه الوسيلة مقارنة بشخص يقضي غالبية وقته في الهواء الطلق.

فلندع جانباً قضية الفزاعات الليزرية وروبوتات إزالة الأعشاب الضارة، فما يحتاجه البستاني حقاً هو سكرتير ذكاء اصطناعي يجمع بين مهارات الكتابة والتحرير.

والواقع أن التقنية اللازمة لذلك أصبحت متاحة بالفعل.