حظيت المملكة المتحدة بالإشادة عندما أصبحت في مايو الماضي أول دولة تبرم اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة، عقب إعلان الرئيس دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية «تبادلية» واسعة النطاق، وقد اعتبرت هذه الخطوة نموذجاً يحتذى به من جانب شركاء واشنطن التجاريين الرئيسيين.
غير أن قرابة شهرين انقضيا قبل أن تتمكن دولة ثانية، هي فيتنام، من إبرام اتفاق مماثل، بينما لا تزال تفاصيل الاتفاق البريطاني غامضة، فعلى سبيل المثال تخوض بريطانيا حالياً معركة للحصول على استثناء من الرسوم الجمركية المرتفعة على الصلب، في وقت ينص المرسوم التنفيذي الصادر عن ترامب صراحة على حقه في إعادة فرض رسوم بنسبة 50% إذا «رأى» أن بريطانيا لا تفي بالتزامها بتقليص النفوذ الصيني في سلاسل إمداداتها.
وقد بدأت الآثار الرئيسية للتعريفات تتجلى بوضوح، حيث قفزت عائدات الرسوم الجمركية الأمريكية إلى نحو أربعة أضعاف مقارنة بالعام الماضي لتبلغ مستوى قياسياً عند 24.2 مليار دولار في مايو، بينما هوت الواردات من الصين بنسبة 43% مقارنة بالشهر ذاته من عام 2024.
لكن في ظل اتخاذ القرارات السياسية بحسب الأهواء الشخصية، تواجه الشركات تحديات جمة في اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد بشأن سلاسل الإمداد، وفقاً لنيل شيرنغ، كبير الاقتصاديين في مؤسسة كابيتال إيكونوميكس البحثية. ويقول شيرنغ: «إن نقل المصانع قرار يتطلب عادة فترة تتراوح بين 8 - 10 سنوات، لكن حين تعجز عن التنبؤ بما يمكن أن يحدث الأسبوع المقبل، ناهيك عن العام المقبل أو السنوات الخمس المقبلة، فإن تخفيف حدة الوضع الراهن يصبح الاستراتيجية الأكثر ترجيحاً».
وقد تم تخفيف حدة تعريفات «يوم التحرير» الصادمة التي أعلنها ترامب في 2 أبريل بإعلانه عن مهلة 90 يوماً بعد أسبوع واحد فقط، حيث تحول المزاج من «الذعر الشديد إلى القلق المشوب بالحذر».
وفي الوقت الراهن، ومع تسابق الدول لإبرام صفقات جديدة مع ترامب قبل انقضاء المهلة في التاسع من يوليو، لا يزال القلق العميق يخيم على أروقة مجالس الإدارات العالمية وسلاسل التوريد.
وتلجأ شركات عدة إلى تبني استراتيجيات تأجيل اتخاذ القرار، حيث يقول سايمون غيل، نائب الرئيس التنفيذي في بروكسيما، الشركة الاستشارية المتخصصة في سلاسل التوريد والمملوكة لمجموعة «بين آند كومباني»: «نرصد تزايداً في أعداد الشركات الساعية لتنويع مصادر توريدها، غير أن نهج «الترقب والانتظار» لا يزال يهيمن على المشهد العام».
ولجأ الكثير من شركات الاستيراد إلى تكديس البضائع وتكثيف استخدامها للمخازن الجمركية التي تسمح للمستوردين الاحتفاظ بسلعهم لفترة تصل إلى خمس سنوات مع تأجيل دفع الرسوم الجمركية حتى لحظة طرحها في الأسواق، فيما تشهد تكاليف التخزين في المستودعات الجمركية ارتفاعاً قياسياً لتبلغ أربعة أضعاف تكلفة المنشآت غير الخاضعة للرقابة الجمركية.
ومن التداعيات الأخرى اكتظاظ الموانئ – في ظل استحواذ السفن على 90% من نشاط حجم التجارة العالمية ومساعي المصدرين لتفادي التعريفات الجديدة، لذلك، يتنبأ بودويجن سيمونز، الرئيس التنفيذي لميناء روتردام، أكبر موانئ أوروبا، بارتفاع حتمي في أسعار المستهلكين مع استمرار الشركات في إعادة هيكلة مسارات تدفق السلع.
ويقول: «ما يثير دهشتي دوماً هو السرعة الفائقة التي تعيد بها سلاسل التوريد توجيه نفسها، ويعود ذلك إلى أن السفن تتمتع بميزتين حاسمتين: امتلاكها لمراوح دافعة ودفات توجيه، مما يمنحها القدرة على الإبحار إلى أي وجهة مرغوبة».
وقد تجاوزت تداعيات قرار التعريفات الجمركية نطاق سلاسل التوريد للشركات، فها هي قرارات الاستثمار تقبع في حالة من التجميد، كما أصبحت حالة الضبابية سبباً رئيسياً وراء تراجع حجم صفقات الاندماج والاستحواذ.
ويقول ماتس بيرسون، المستشار السابق بوزارة الخزانة البريطانية والذي يعمل حالياً في شركة إرنست آند يونغ الاستشارية: «إذا كنت متضرراً بصورة مباشرة، فقد تبادر إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بالحضور الجغرافي وإعادة هيكلة سلسلة التوريد، لكن التأثير الأشد وطأة يكمن في تجميد نشاط إبرام الصفقات، مما يخلق أثراً سلبياً يفوق في حدته مجرد التريث في نقل الأعمال إلى ما وراء حاجز ترامب للرسوم الجمركية».
ويؤكد نيل شيرنغ أن مصير الموعد النهائي بعد أيام قليلة لمفاوضات التعريفات الجمركية - سواء سارت الأمور باتجاه منح مهلة جديدة أم تعميق حالة الغموض - يرتهن في نهاية المطاف لرجل واحد، مضيفاً: «هنا يكمن الفارق الجوهري بين هذه الأزمة وبين جائحة كوفيد 19 أو الأزمة المالية عام 2008 - فالمعادلة بأكملها باتت رهينة لشخصية دونالد ترامب».
ومنذ أن فرض ترامب الرسوم الجمركية الأولى على الصين عام 2018، تتسارع وتيرة ما بات يعرف باستراتيجيات «توطين الإنتاج في دول صديقة» - وهو توجه الشركات نحو إقامة منشآتها أو نقلها إلى دول متوافقة مع الولايات المتحدة جيوسياسياً واستراتيجياً.
بيد أن إعادة التوطين تنطوي على تعقيدات ومخاطر جمة، إذ كشف استطلاع أجرته مجموعة «بين» لكبار مسؤولي العمليات، قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض العام الماضي، أنه في حين يخطط 80% منهم لتعزيز التوطين المحلي أو إعادة التوطين في سلاسل الإمداد خلال السنوات الثلاث المقبلة – مقارنة مع 63% عام 2022 - لم ينجح سوى 2 % فقط في إنجاز هذه الخطط فعلياً.
ويقول سايمون غيل: «تغيير الموردين أو تحويل مسار الإنتاج مسألة يسهل الحديث عنها لكن تنفيذها شديد الصعوبة، وبما أن جميع المؤسسات تستهدف المواقع ذاتها، فمن المتوقع أن تنشأ قيود شديدة في الطاقة الاستيعابية من حيث العمالة الماهرة والمساحات الصناعية».
وتتباين آليات تحول الأنماط التجارية بشكل جذري من منتج لآخر، وفقاً لسهولة العثور على مصادر توريد بديلة. ويشدد ماتس بيرسون من شركة إرنست آند يونغ على أن التعريفات الجمركية وحدها لم تشكل يوماً دافعاً كافياً للشركات لتغيير مسارات سلاسل التوريد، موضحاً أن التعديلات التنظيمية - مثل القواعد المستجدة التي ستشترط خلو السيارات المباعة في السوق الأمريكية من أي برمجيات صينية بدءاً من عام 2027 - قد تمثل محركات تغيير أشد تأثيراً بكثير.
وفيما يتعلق بالقطاعات الخاضعة لضوابط تنظيمية صارمة كصناعة الأدوية، يرى محللو القطاع أن نقل الإنتاج إلى الولايات المتحدة سينطوي على تكاليف باهظة واضطرابات هائلة لدرجة أنه حتى الرسوم الجمركية المرتفعة قد لا تؤدي بالضرورة إلى نقل فوري للمنشآت الصناعية.
وتعكف إدارة ترامب على دراسة فرض تعريفات قطاعية على واردات المستحضرات الصيدلانية، مع وضع أيرلندا تحديداً في دائرة الاستهداف. وفي هذا السياق، صرح ترامب بشأن مكانة أيرلندا كمركز تصنيع لكبريات شركات الأدوية العالمية قائلاً: «سنتعامل مع هذا الوضع».
وسارعت عمالقة الأدوية ميرك وروش وجونسون آند جونسون جميعها إلى التأكيد على تعزيز استثماراتها في الولايات المتحدة، بينما عكفت شركات القطاع على تكديس مخزوناتها داخل الأراضي الأمريكية لمنح نفسها هامشاً للمناورة حال تنفيذ الرسوم الجمركية المرتفعة.
وقال ستيفان أولريش، رئيس قطاع المستحضرات الصيدلانية في باير، للصحافيين في بروكسل الشهر الماضي: «يتطلب الأمر سنوات لتحويل مسارات سلاسل التوريد، فهذا لن يحدث بين عشية وضحاها»، محذراً من أن هذا الاضطراب «ستترتب عليه تداعيات حتمية على تكلفة الأدوية، وسيتعين على طرف ما استيعاب هذه التداعيات».
وبحسب ماتس بيرسون من إرنست آند يونغ، فإن النتيجة الملموسة الأكثر وضوحاً للتعريفات الجمركية التي فرضها ترامب لا تتمثل في إعادة هيكلة سلاسل التوريد، بل في التراجع المفاجئ في نشاط إبرام الصفقات.
وكشف استطلاع أجرته برايس ووترهاوس كوبرز أن 30% من المتخصصين في صفقات الدمج والاستحواذ قاموا إما بتعليق أو إعادة تقييم صفقاتهم بسبب حالة عدم اليقين الناجمة عن التعريفات الجمركية.
ومن بين الصفقات التي تأجلت في هذا السياق: عروض الاستحواذ على وحدة الملاحة في شركة بوينغ، وصفقة بيع متوقعة بقيمة 4 مليارات جنيه استرليني من مجموعة الاستحواذ أباكس لمجموعة التأمين «بي آي بي».